التربية النبوية وصناعة الرجال

 

كرم الله الانسان وميزه عن باقي المخلوقات بالعقل، لكن الشيء الاهم فيه هو روحه جل جلاله التي نفثها في الجسد الطيني الخاص بسيدنا آدم. كما أن الحق سبحانه وتعالى وضع لهذا الانسان منهجا تربويا ليحيا به حياة طيبة مليئة بالسعادة والطمأنينة حتى لا يشقى في الدنيا ويلقى ربه وهو راض عنه.حيث تجلت لنا هذه التربية كمسلمين في سيدنا محمد صلوات ربي وسلامه عليه، قال تعالى: ﴿ وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ [سورة القلم:الآية 4].

تشمل هذه التربية الربانية جميع مكونات الانسان، الظاهرية منها والباطنية، وعلاقته بجميع المخلوقات: البشرية، المادية والحيوانية، وهذا ما لمسناه في خُلُق سيد الخلق أجمعين محمد رسول الله ﷺ، من خلال تدبرنا لآيات الذكر الحكيم وقراءتنا لسيرته العطرة التي تزخر بأمثلة وأسماء عدة لرجال ونساء رعاهم نبي الله وخاتم المرسلين محمد ﷺ منذ طفولتهم، فكان لهم أبا بمعنى الكلمة، رباهم ورعاهم حتى أصبحوا قادة للأمة جمعاء وحملوا على عاتقهم تبليغ الرسالة المحمدية كما أوصاهم رسول الله ﷺ.

تتحقق هذه التربية النبوية في الانسان إذا عمل بها وجعلها منهج حياته، فهي جوهرة الحياة لمن عاشها وحرص على ان يكون عبدا شكورا، خدوما لمحيطه، مجاهدا وساعيا للخيرات يغلب عليه طابع الرحمة لكنه شديد على الاعداء.

حرص نبي الله محمد ﷺ غرس مجموعة من الصفات الجيدة بالأطفال، حيث كان صل الله عليه وسلم يوليهم عناية خاصة تملأها الكثير من الرحمة، البسط، اللعب والضحك الدائم معهم لكننا سنجد مقابل كل هذا: الصرامة، الجرأة في الحق، الرجولة والشجاعة من غير تهور وجهاد في غير عنف؛ لذلك أثنى الله تعالى على رسوله ﷺ وعلى صحابته بقوله: ﴿ مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ ۚ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ ۖ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا ۖ سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ۚ ذَٰلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ ۚ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَىٰ عَلَىٰ سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ ۗ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا﴾ [الفتح، 29]

الحديث عن بعض الرجال الذين ترعرعوا تحت جنابه الشريف ﷺ يطول، سنختار منهم سيدنا علي كرم الله وجهه كنموذج لهذه التربية النبوية العظيمة، فهو بن عم رسول الله ﷺ وزوج حبيبته وابنته فاطمة الزهراء رضي الله عنهما، أول من أسلم من الاطفال في عمر لم يتجاوز التسع سنوات ولم يسجد لصنم قط، تحدى بشجاعة كبيرة كل العادات والعقليات الوثنية لأفراد قبيلته؛ قال ابن إسحاق: وذكر بعض أهل العلم أن رسول الله ﷺ كان إذا حضرت الصّلاة خرج إلى شعاب مكّة، وخرج معه عليّ بن أبي طالب مستخفيا من أبيه أبي طالب ومن جميع أعمامه وسائر قومه، فيصلّيان الصّلوات فيها فإذا أمسيا رجعا. فمكثا كذلك ما شاء الله أن يمكثا.

اقحم نبي الله ورسوله الكريم ﷺ عليا رضي الله عنه في عظام الاعمال، حيث قام -علي الطفل- بتنظيم وليمة لكبار قومه (في أول أيام الدعوة السرية) كما جاء في رواية عن ابن عبّاس عن عليّ بن أبي طالب قال: “لما نزلت هذه الآية على رسول الله ﷺ وأنذر عشيرتك الأقربين قال: يا عليّ اصنع لنا رجل شاة على صاع من طعام وأعد لنا عس لبن ثمّ اجمع بني عبد المطلب، ففعلت، فاجتمعوا له وهم يومئذ أربعون رجلا يزيدون رجلا أو ينقصونه فيهم أعمامه أبو طالب وحمزة والعبّاس وأبو لهب، فقدمت إليهم تلك الجفنة فأخذ منها رسول الله ﷺ حذية فشقها بأسنانه ثمّ رمى بها في نواحيها وقال: كلوا باسم الله، فأكل القوم حتّى نهلوا عنه ما نرى إلّا آثار أصابعهم، والله إن كان الرجل منهم يأكل مثلها، ثمّ قال: اسقهم يا عليّ، فجئت بذلك القعب فشربوا منه حتّى نهلوا جميعا، وأيم الله إن كان الرجل منهم ليشرب مثله، فلمّا أراد رسول الله ﷺ أن يكلمهم بدره أبو لهب إلى الكلام فقال: لقد سحركم صاحبكم، فتفرّقوا ولم يكلمهم رسول الله ﷺ، فلمّا كان الغد قال: يا عليّ عد لنا بمثل الّذي صنعت بالأمس من الطّعام والشراب، ففعلت ثمّ جمعتهم له، فصنع رسول الله ﷺ كما صنع بالأمس، فأكلوا وشربوا حتّى نهلوا ثمّ قال رسول الله ﷺ: يا بني عبد المطلب إنّي والله ما أعلم شابّا من العرب جاء قومه بأفضل ممّا جئتكم به، إنّي قد جئتكم بأمر الدّنيا والآخرة”

تعهد رسول الله ﷺ عليا رضي الله عنه تربية حسنة، مما جعله مؤهلا لتولي مناصب عليا، فهو أحد الخلفاء الراشدين، المجاهد الفاتح الذي واجه فتنة لا تتحملها الجبال، ويوم خيبر أعطاه رسول الله ﷺ الراية ففتح الله على يديه. قال أبو هريرة رضي الله عنه: إن رسول الله ﷺ قال يوم خيبر: «لأعطين الراية رجلا يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله، ويفتح الله على يديه». قال عمر: فما أحببت الإمارة قبل يومئذ، قال: فدعا عليا فدفعها إليه لأنه الرجل الحكم العدل في قضايا مجتمعه، روي عن علي رضي الله عنه انه قال: “بعثني النبي ﷺ إلى اليمن، وأنا حديث السن، ليس لي علم بالقضاء، فضرب صدري، وقال: «اذهب فإن الله سيهدي قلبك ويثبت لسانك». قال: فما شككت في قضاء بين اثنين بعد”

  هذا القائد الصغير بعمره الكبير بصفاته، انه الصادق الوفي، والشجاع القوي الذي أخذ مكان رسول الله في مضجعه ببيته الشريف صلوات ربي وسلامه عليه، عندما أراد سادة قريش قتل نبي الله ﷺ اثناء ذهابه للنوم بمنزله، فاختاره صل الله عليه وسلم لهذه المهمة فقال لعليّ بن أبي طالب: “نم على فراشي وتسجّ ببردي هذا الحضرمي الأخضر، فنم فيه، فإنّه لن يخلص إليك شيء تكرهه منهم، وكان رسول اللّه ﷺ ينام في برده ذلك إذا نام”

الشيء الذي جعل الكثير من الاطفال يتسابقون ويتنافسون فيما بينهم ليظفروا بمكانة داخل صفوف المجاهدين، يتدربون بشكل مكثف على جميع الفنون الحربية من مصارعة ورماية وركوب خيل…بغية تحسين أدائهم ويكونون في أتم الاستعداد ليتم عرضهم على رسول الله ﷺ في الغزوات فيجيز من يراه قادرا على القتال ويرد غيرهم؛ وقد روي أنه ﷺ “أجاز يوم أحد سمرة بن جندب الفزاريّ ورافع بن خديج أحد بني حارثة. وكان رسول الله ﷺ قد ردّهما. فقيل له: يا رسول الله، إنّ رافعا رام، فأجازه. فلما أجاز رافعا قيل له: يا رسول الله فإن سمرة يصرع رافعا، فأجازه”

وأخرج الطبراني: “كان النّبيّ ﷺ، يعرض غلمان الأنصار في كلّ عام، فمن بلغ منهم بعثه، فعرضهم ذات عام، فمرّ به غلام، فبعثه في البعث، وعرض عليه سمرة من بعده فردّه، فقال سمرة: يا رسول الله، أجزت غلاما، ورددتني، ولو صارعني لصرعته؟ قال: «فدونك، فصارعه» قال: فصرعته، فأجازني في البعث

 سنختم حديثنا عن اهمية تنشئة الاطفال وشباب الامة تنشئه سليمة تقوم على منهج النبوي الشريف فهي خَلاصُنا وحل لكل التحديات المطروحة حاليا، سواء كانت هذه التحديات على المستوى الشخصي أو على مستوى الشعوب بصفة عامة، لان هناك اشارات نبوية عظيمة أن مستقبل الدعوة يصنعه الشباب، والمسؤولية الان على عاتقهم وأن فلسطين هي البوصلة خير دليل على قولنا هذا هو قصة بعث اسامة رضي الله عنه للوصول الى فلسطين،كان شابا لم يجاوز العشرين من عمره ،ففي آخر أيامه صلى الله عليه وسلم في هذه الدنيا عقد اللواء لأسامة بن زيد في بعث من كبار المهاجرين والأنصار إلى الشام في فلسطين. فمرض صلى الله عليه وسلم مرضه الذي قبض فيه والجيش لما يبرح بعد المدينة. فظل صلى الله عليه وسلم يوصي أن أنفذوا بعث أسامة. وكانت هذه أول مهمة حرص عليها الصديق رضي الله عنه بعد توليه الخلافة.