واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم

يقول الله عز وجل في الآية 28 من سورة الكهف: ﴿واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه، ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا، ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا ﴾.

 تتضمن الآية الكريمة ثلاثة أوامر إلاهية لسيد الخلق سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم. يأمر الله عز وجل نبيه الكريم وسيد الصابرين والذاكرين بأن يصبر نفسه الزكية مع المؤمنين الذاكرين الذين يدعون ربهم ويستعينون به صباحا ومساء وفي كل الأوقات. فهم أصحاب الإرادة والهمم العالية، وهم الطالبون لأسمى ما يطلب في الدنيا والآخرة وهو وجه الله تعالى. وهم الذين سخروا حياتهم وأموالهم وأوقاتهم وذويهم في سبيل نيل رضا الله تعالى. تلك الفئة المؤمنة هي التي نزل فيها الأمر الإلهي لمحمد صلى الله عليه وسلم بملازمتهم وجهاد نفسه للبقاء في كنفهم.

 آية عجيبة متضمنة لمعان كبيرة وتطرح تساؤلات عظيمة؛ فكيف لنبي مؤيد بالوحي القرآني وبالاتصال الرباني أن يدعوه الله عز وجل لملازمة أهل الإيمان؟ إن مجرد التمعن في هذه الآية يجعلنا ندرك أهمية الصحبة الصالحة وملازمة الجماعة في السير إلى الله عز وجل. وسنحاول من خلال تحليلنا للآية الكريمة أن نفصل في المعاني التي تضمنتها سيرا إلى الإجابة عن التساؤل المطروح.

 قبل الخوض في المعاني التي تضمنتها الآية لا بأس من ذكر سبب نزولها: فقد طلب أسياد قريش من النبي صلى الله عليه وسلم أن يطرد جلساؤه من فقراء وضعفاء المسلمين حسب نظرهم، أو يقوم عنهم إن رفض طردهم. فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: دخل عيينة بن حصين على النبي صلى الله عليه وسلم وعنده سلمان، فقال عيينة: “إذا نحن أتيناك فأخرج هذا وأدخلنا”، فنزلت الأية الكريمة متضمنة لأربعة أوامر: الصبر وصحبة الجماعة وذكر الله عز وجل وإرادة وجهه الكريم. وفي المقابل حذر الله تعالى فيها من ثلاثة مزالق: البعد عن أهل الصلاح وطلب الدنيا وصحبة الغافلين المتبعين لأهوائهم المضيعين لأوقاتهم فيما لا ينفع.

 فاصبر نفسك: الصبر هو حمل النفس على التبات في ظروف ليست بالسهلة، مع المثابرة في مواجهة العقبات وتحمل العناء للوصول إلى الهدف. وهو أيضا الصمود المستمر على الأشياء المؤلمة والثقيلة على النفس دون إظهار ملامح الاستياء. والمقصود من الآية حبس النفس وحملها بقوة من خلال إرغامها على مجالسة ومصاحبة المؤمنين والحضور معهم في حلق الذكر والتعلم منهم والارتقاء معهم والاقتداء بهم في المسارعة لنيل رضا الله تعالى.

 إن ورود كلمة الصبر متصدرة الدعوة إلى المكوث مع الجماعة لدليل على أن صحبة وملازمة الصالحين تحتاج إلى جهاد كبير للنفس وتربية عظيمة لها حتى تجد لها مكانا في كنف المؤمنين الذاكرين.

 مع الذين: إنهم الصحبة الصالحة؛ العابدون الذاكرون الصادقون الطامحون لوجه الله تعالى. إنهم الفئة المؤمنة التي ستكون الدعامة للدعوة الإسلامية والناصرة لرسول الله في وجه الظلم والشرك. وهم الفئة المؤمنة والصالحة المصلحة من أمة محمد صلى الله عليه وسلم في كل زمان ومكان.

 يدعون ربهم بالغداة والعشي: الذكر قوت القلوب وغذاء الروح وعلاج القلق والضيق والقنوط والوحشة، يقول تعالى: ﴿الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله، ألا بذكر الله تطمئن القلوب﴾ (الرعد 28).

 فالذكر شرط أساسي للتربية الإيمانية الإحسانية، وهو منشور الولاية، رفيق السالكين المحبين. والإكثار منه ولزومه ترياق مجرب.

 يريدون وجهه: تبين هذه العبارة صدق النية عند الفئة المقصودة من الآية الكريمة؛ والصدق عامل شخصي داخلي يجيب عن السؤال: ماذا أريد؟ والصادق الذي يسعى ويطلب وجه الله تعالى مطالب بأن يبرهن على ذلك بالفعل قبل القول؛ ولا يتأتى ذلك إلا بالبذل من ماله ووقته وجهده في سبيل الله، وبالاستماتة والصمود والاستمرار والاجتهاد. مستعينا في ذلك كله بالله تعالى ومتوكلا عليه ومستمدا القوة والطاقة من الكينونة مع أهل الله وخاصته من الصادقين الموصولة حبالهم بالسلسلة النورانية التي شربت من المعين؛ من قلب سيدنا محمد منبع الصدق والإخلاص والبذل والعطاء.

 بمقابل حث النبي على ملازمة الصالحين الذاكرين المخلصين من أصحابه رضوان الله عليهم جميعا، فقد نهى الله تعالى رسوله الكريم ومن تلاه ممن يبتغي وجه الله تعالى بالابتعاد عن الغافلين من أهل الدنيا ممن يصدون عن الحق، ويفسدون في الأرض، ويمنعون عن القرب من الله تعالى ونيل رضاه وابتغاء وجهه. تلك هي الفئة التي اتبعت الهوى وعبدت الشهوات وأعرضت عن الحق وخسرت في الدنيا والآخرة وجب حسب الآية عدم طاعتها وعدم اتباعها.

 نستخلص من هذه الوقفة مع هذه الآية الجامعة أهمية الصحبة في الثبات على الحق وتربية النفوس على الصبر وعلى تحمل المشقات وتجاوز العقبات للرقي في مدارج الدين وصولا إلى نيل رضا الله تعالى. فخير العطاء صحبة ربانية وتوفيق لذكر الله بالقلب واللسان وقلب صادق نقي لا يرضى عن حب الله بديلا.

رزقني الله وإياكم صحبة صالحة تعيننا على الحق وتبعدنا عن الباطل، وجعلنا جميعا من أحبابه وأحباب نبيه سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، ومتعنا بالنظر إلى وجهه الكريم.

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *