عظمة رسول الله صلى الله عليه وسلم

في يوم الإثنين الثاني عشر من شهر ربيع الأول من عام الفيل، ولدت آمنة بنت وهب الزهرية القرشية مولودا ذكرا. ولد من سيكون جوهرة البشرية، وتتمة كمالها، وتمام جمالها روحا وطينا.

طينة صورها العزيز الحكيم، وبرأها الله، وأبدعها وصبغها واستبطن فيها الكريم عقلا وروحا ونورا خاصا، كرم به صاحبه على العالمين، وشرفه بجعله السيد في صفوة المقربين، والإمام المقدم في نخبة الحامدين العابدين الشاكرين.

إلى سن الأربعين، بقي حبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم محفوظا على كمال الفطرة، محروسا عن كل نقيصة أو شائبة ، محفوظا عن كل آفة أو رذيلة، لا شيطان يغويه ولا إنس يغريه ، إلى أن أتاه الملك في غار حراء ليلقي في سمعه، ويلقي على قلبه أنوار النبوة، وَحْيًا من خالقه ورب العالمين.

مند ذلك اليوم ، وربه الكريم، العليم الخبير بسابقته عنده، يزيده علما أثرى مما تعلم قبلا، ويرفعه رفعة أرقى مما ارتقى، ويلبسه عزة أشرف مما اكتسى، وينيله ويعطيه، ويهبه ويدنيه، ويوسع عليه ويفيض، حتى تُوِّجَ بتاج كمال العبودية والإمامة والسيادة.

يا سعد من عاش على حبه وهديه، ومات عليه. طوبى ثم طوبى ثم طوبى …!!

قال تعالى: <وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُم ۚ مَّا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ ۚ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ>. تأكيد من لدن عليم خبير، أن جميع ما نراه يدب فوق الأرض أو يطير في سمائها إنما هم أمم، يؤتمرون وينقادون لنفس النواميس الكبرى التي تسيرنا سواء في المصير أو المسير. فالجميع تحت سلطان الحياة والموت.

لكل ذي بصيرة ذاق حلاوة الإيمان، تثير له هذه الأمم الدهشة والتعجب، من حيث خلقتُها وسلوكُها ونظامُ الحياة عندها. ويبقى سلوك الهدهد في زمن سليمان عليه السلام آية من الآيات الدالة على إبداع الخالق، قبل المخلوق وإحسانه.

هذا الطائر العجيب، استكثر ما تملكه هاته المرأة من قوة الجيش والعتاد، ونظام العدل والمعمار، ومتعة ومتاع العيش، فأدهشه ما رآى، واستعظم عرش الملكة لأنه لم يرى مثله عند نبي الله سليمان.

فخامة الكرسي، وعظمة الهيكل، و الفَرش النفيس، رأى الهدهد كمال العظمة في مهابة سُدة الرئاسة .

نزل الوحي على نبينا العظيم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بعلم الله <ٱللَّهُ أَعۡلَمُ حَیۡثُ یَجۡعَلُ رِسَالَاتِهُ>، فقابلها كبراء قريش بجهالة، لأن المُنزل عليه لم يكن صاحب نفود ولا جاهٍ ولا مال ولا رئاسة، لم تكن لديه أهلية للوجاهة والسيادة، كعروة بن مسعود أو الوليد بن المغيرة …

جهلهم الشديد بالنبوءات، وبعنادهم وقبح عاداتهم تمردوا: <وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَٰذَا الْقُرْآنُ عَلَىٰ رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ>.

فالعظمة عندهم لا يستحقها إلا ذو ثروة ومال وجاه. صنديد هُمام، يموت ولا تموت بموته العادات.

صاروا على نهج يهود بني إسرائيل عندما بَشَّرهم نبيهم، <وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا>، ببلاهتهم وغفلتهم عن ربوبية خالقهم عز وجل، وإلحادهم بأسمائه، <قَالُوا أَنَّىٰ يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ>.

الثروة والغنى الفاحش والقوة الكبيرة كانت دائما أصناما وآلهة للمترفين والطغاة وملوك الجاه، وأحيانا تسقط حتى الشعوب المستضعفة في هذه الفخاخ النفسية الشيطانية حين لا تجد من يحتضنها تربويا، ويزكي أخلاقها، ويرشدها إلى طريق الآخرة، ويدلها على الله الحق المعبود،<قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ>.

غالبا ما نجد كلمة “عظيم” موصولة ومقرونة بالمال ونصيب الدنيا وزينتها.

وقالها عزيز مصر زمن يوسف عليه السلام حين استخبر الشاهد وسمع حكمته ورأيه السديد <وَإِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ، قالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ>.

فالمقصود أن المرأة إذا طمعت في شيء وتمركزت عليه همتها، تنهج كل الحيل وطرق الاجتهاد حتى تتمكن منه، وتبلغ المراد والمقصود. فالكيد في عقليتها وذهنيتها ونفسيتها عظيم إذا ما استخدمته لحاجتها.

تتحدد العظمة في نبي عظيم وترتسم في ذهن الإنسان من خلال علمه وخبرته وفهمه وتصوره من خلال منهاجه. فمنهاجه هو الذي يعطيه أو يشخص له قيمة الأشياء من حيث قيمتها. واعتمادا على مبادئ هذا المنهاج وقواعده ومقاصده تصدر الأحكام.

فعزيز مصر الخبير بمعادن الناس، والهدهد بما اكتسبه من صحبة نبي الله سليمان عليه السلام، وأصحاب قارون بما رسخ وتبث في ذاكرتهم ومخيلتهم، وجبابرة قريش بما ثبت فيهم من ثوابت الجاهلية وعاداتها الشنيعة، كل هؤلاء لديهم مفهوم العظمة وفق تصوراتهم واعتقاداتهم وما اقتنعت به عقولهم.

لكن حين يأتينا معنى العظمة ممن له مطلق وكمال الألوهية والربوبية فالأمر يصبح غالبا على قدرات العقل وحدود الخيال ومبلغ الفهم، لا يحتويه إلا الإيمان والتسليم، والتسبيح والتعظيم لله الواحد الأحد الصمد.

بشر الله المؤمنين بالأجر “العظيم” من خزائنه التي لا تنفد، ويتوعد الكافرين بيوم “عظيم” الذي لن ينجو من أهواله أحد، وينذر المستكبرين بالعذاب “العظيم” الذي لا شفيع فيه ولا سند.

يحيط بالبهتان “العظيم” عِلما، ينزل البلاء “العظيم” ابتلاءً، ويحيط بالبهتان “العظيم” عِلما، ويُبطل السحر “العظيم” قدرة، لا شيء يعظم أو يكبر أمام عظمته وعزته وعلمه وجبروته وسلطانه. العلي العظيم رب العرش العظيم.

من كمال وبركة ثناء ربنا عز وجل على رسولنا وشفيعنا سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم قوله: <وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ>. أن يقول ربنا الخبير العليم أن حبيبه وصفيه المصطفى ذو خلق “عظيم”، فاعلم أن الأمر جلل، لن تحتويه بحور البحوث والتنقيب والعلم والتحقيق. كان عظيما في خُلق عبوديته لربه سبحانه، التي لا يعلم قدرها وأسرارها إلا الله الذي لا يخفى عليه شيء . ليبقى كل ما ذاقه الأولياء والعابدون والعارفون والمحسنون والسالكون والزاهدون ما هو إلا رشفة من بحر عاشه المصطفى، وقام في طلبه ثلث الليل أو ثلثي الليل وأحيانا نصفه، وقضى عُمُرَ نبوته في الدعوة والجهاد لأجله، وما راقه لحظةً واحدةً متاع الدنيا، لأن روحه تَسبح دائما وتُسبح مع أرواح الملائكة، ؛<إني أرى ما لا تَرَوْنَ وأسمعُ ما لا تسمعون أَطَتِ السماءُ وحقٌّ لها أن تَئِطُّ ما فيها موضعُ أربعِ أصابعَ إلا وملكٌ واضعٌ جبهتَه للهِ ساجدًا واللهِ لو تعلمون ما أعلمُ لضحكتم قليلًا ولبكيتم كثيرًا وما تلذَّذتم بالنساءِ على الفُرُشِ ولخرجتم إلى الصُّعداتِ تجأرونَ إلى اللهِ>. قال أبو ذر الغفاري رضي الله عنه لما روى هذه الكلمات : لوددتُ أني كنتُ شجرةً تُعْضَدُ. يقصد شجرة تقطع وتدخل العدم ولا تُبعث.

وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ، تشمل كل المخلوقات في الدنيا والآخرة بما ابتغى لهم من خير وفضل وإحسان، و لأجعلنك المدد والنجدة والغوث والوسيلة بيني وبينهم. من اقتضى بخلقك رفعت شأنه، وكرمته بمجاورتك في ملكوتي، “إنَّ أحبَّكم إليَّ وأقربَكم منِّي في الآخرةِ محاسنُكم أخلاقًا”. ومن ساء خلقه ممن أعرض عنك، أعرضت عنه وأذللته، وأبعدته عنك، “وإنَّ أبغضَكم إليَّ وأبعدَكم منِّي في الآخرةِ أساوِئُكم أخلاقًا الثَّرثارونَ المُتَفْيهِقونَ المُتشدِّقونَ”.

نختم بحديث قتادة عن زرارة ابن أبى أوفى، عن سعد بن هشام قال: <سألت عائشة أم المؤمنين فقلت: أخبرينى عن خلق رسول الله ﷺ. فقالت: أما تقرأ القرآن؟ قلت: بلى! فقالت: كان خلقه القرآن>.

نسأل الله العظيم، في هذه الذكرى العطرة الميمونة المباركة، أن يصلي على سيدنا محمد ويلبسنا حظوة ونصيبا مما ألبسه من عزيز وجميل الخصال والمحامد والفضائل والمكارم ، وأن يملأ أركان قلوبنا بمحبته، وأن يوفقنا لاتباعه شبرا بشبر وذراعا بذراع، وأن يجعلنا في مجالس حضرته يوم القيامة مع أحبابنا النبيئين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقا. يا ربنا أقل العثرات، واستر العيوب، واغفر الذنوب، يا رحيم يا ودود لا إله إلا أنت سبحانك.

تعليق واحد

  1. مشكور اخي على الموضوع جعله الله في ميزان حسناتكم ونفع بكم الأمة
    اللهم صلِ وسلم على حبيبنا وحبيب الله وحبيب جبريل والملائكة صلاة نصر وتمكين للمسلمين
    اللهم صل وسلم على سيدنا وحبيبنا ونبينا في الاولين والاخرين في كل وقت وحين عدد ماذكرك وذكره الذاكرون وغفل عن ذكرك وذكره الغافلون واجعلنا مهتدين بهديه مقتدين بنهجه اللهم امين

اترك رداً على فتيحة كملاويإلغاء الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *